تنشر الاهرام سلسلة مقالات احتفالا بعيد ميلاد الاستاذ محمد حسنسن هيكل , وتجتهد معظم الصحف فى البحث عن سيرة الرجل، الذي ولد في 23 سبتمبر عام 1923،
ليست محل ريبة بعد أن جاوز بثبات مواقف كثيرة كان فيها تابعا أمينا لما اعتقده دون
شك ومخلصا لما آمن به دون تزيد، ومنحيا لما يبدو أنه خاص في سبيل ما يبدو أنه عام.
اليوم الأحد ، يبدأ "الجورنالجي" عامه التسعين وخلفه تجربة إنسانية نادرة امتدت بين قصور الرئاسة وعروش الملوك، وتنقلت بين أفخم الفنادق وأضيق الخنادق، وتسامرت مع الفلاسفة والمفكرين، وتطوعت بإسداء النصيحة دون ثمن، وكانت سجلا مفتوحا لتاريخ مصر والعالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.
تعتبر سيرة هيكل المهنية دولة عميقة الأغوار، الظاهر فيها ينبئ عن قدر يسير من الغاطس، فهو صديق لزعماء وفلاسفة ومفكرين ومحاور بارع ومحلل لا يشق له غبار، يصفه هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا الأسبق بأنه "الرجل الذي يجب أن تجلس أمامه لتعرف العالم العربي".
شكل هيكل حالة استثنائية في تاريخ الصحافة العربية والعالمية، ففي كل لحظة كان يبدو فيها أنه سيذهب إلى عتمة الظلام، كانت الأضواء تتسلط عليه أكثر، وفي كل مرة كان يمكن أن يتوارى فيها خلف ستائر النسيان، كان يُستدعى - بقيمة التجربة- إلى ذاكرة الوطن ليحلل ويفسر وينصح، وفي كل مرة كان يظهر أنه سيبتعد، تجده قريبا من نبض الوطن معبرا عنه بما أوتي من بلاغة وبيان.
يستحق هيكل لقب أمير الصحافة العربية أو أستاذ الأجيال أو غيرها من ألقاب يبحث عنها البعض ويبذل لأجلها الغالي والنفيس وقد يدفع من أجل ترويجها، ما يجعلها تقر في الوجدان دون استحقاق في معظم الأحيان، لكن الرجل لا يفضل سوى لقب "الجورنالجي".
في سبتمبر 2003 وبمناسبة بلوغه الثمانين كتب الأستاذ محمد حسنين هيكل مقالين في الأهرام بعنوان "استئذان في الانصراف" تحدث فيهما عن لحظات سابقة راودته فيها فكرة الابتعاد أو الانصراف، ثم قرر أنه سيبتعد دون أن يغيب مفسرا "أنني لا أري بأسا في انتقال رجل من ومض الضوء إلي ظل الغروب (وليس عتمة الليل)- ومن متن الحياة العامة إلي هامشها (وليس الفراغ بعد الهامش).
حشد الأستاذ حججا لقراره، ومهد وعبَد طريقا طويلا في مقالتيه متشحا بتجارب وخبرات وأمثلة، ومقدما لحكمة الابتعاد اختيارا قبل أن يجبر عليه "كان تقديري أن أي حياة- عمرا وعملا- لها فترة صلاحية بدنية وعقلية وأنه من الصواب أن يقر كل إنسان بهذه الحقيقة ويعطيها بالحس- قبل النص- واجبها واحترامها، ثم إنه من اللائق أن يجيء مثل هذا الإقرار قبولا ورضا وليس إكراها وقسرا كما يستحسن أن يتوافق مع أوانه فلا ينتظر المعني به حتي تتطوع مصارحة مخلصة أو تداري مجاملة مشفقة لأن انتظار المصارحة مؤلم وغطاء المجاملة مهين".
الآن بعد 9 سنوات من استئذانه لم يسمح أحد للأستاذ بالانصراف وأجبر على الوجود بصورة أو بأخرى إذ كان تلاحق الحوادث وتلاطم أمواج الوطن دافعا لـ"الجورنالجي" الذي بدأ حياته المهنية في 8 فبراير 1942 أن يطل من آن لآخر، ملقيا بتحليل أو شارحا لموقف أو داعيا للإيمان بالوطن في وقت كان التكفير على أشده.
لم ينفرد هيكل بنفسه كما أراد بحثا عما أسماه "فرصة أوسع للتفكر والتأمل والنظر إلي الوراء في أناة وروية والنظر إلي الأمام بعقل وقلب مازال فيهما حس ونبض".
يمتلك هيكل أسلوبا في الكتابة يتسم بالفتنة في العموم وبالإغراء في التفاصيل ومع ذلك كان يفضل أن يتساءل الناس "لماذا لا يكتب هذا الرجل- أكثر؟.. بدلا من أن يكون سؤالهم.. لماذا يكتب هذا الرجل- أصلا؟
دائرة المعارف البريطانية تقول إن جريدة الأهرام كانت توصف خلال الفترة التي تولى فيها هيكل (1974:1957) بأنها "نيويورك تايمز" العالم العربي وأرجعت ذلك جزئيا لتحليلاته الأسبوعية التي كان بعضها ينشر على صفحة كاملة.
في عصر عبدالناصر (1954: 1970) كان هيكل صديقا ناصحا ومنظرا للنظام وعرابا يقدم لانجازاته ويدافع عن أخطائه لدرجة اتهامه بأنه أراد أن يكون الصحفي الأوحد وقد وصف مشاعره لحظة وفاة ناصر "درجة قربي من جمال عبد الناصر لا تسمح بحياد".
في عهد أنور السادات (1981:1970) اختلف هيكل مع الرجل الذي اتخذ قراري الحرب والصلح مع العدو وكان لكل رؤيته، في التعامل السياسي مع الانتصار العسكري الذي تحقق في حرب أكتوبر 1973، وبرغم انتقاد هيكل للسادات شارحا: "الرجل تعامل مع المجهول مراهنا علي تصوراته الخاصة في ظروف لاتحتملها الحقائق يومها ولا التقويم الموضوعي للمواقف" فإن هيكل الذي غادر الأهرام في 2 فبراير 1974 بدا بعد عمر طويل وعندما بلغ الثمانين متسامحا مع الرجل الذي اختلف معه "الغريب في الأمر أنني كنت مازلت قادرا علي فهم جزء من مشاعره"، وذلك بالرغم من أن عصر السادات انتهى باغتياله وكان هيكل وقتها معتقلا ضمن مئات السياسيين والنشطاء في ما عرف بـ"اعتقالات سبتمبر".
خلال مدة حكم حسني مبارك الطويلة (2011:1981) تعرض هيكل لمنع مقالاته في بداية حكم مبارك وقد بدا متفهما فقال لأسامة الباز مستشار رئيس الجمهورية "أنني آخر من يخطر له إحراج نظام لايزال يحاول تثبيت أوضاعه واستجماع خطوطه للقيام علي مسئولية الوطن في ظرف دام ومحتقن".
في النصف الثاني من حكم مبارك تم منع حلقة تليفزيونية لهيكل في فضائية دريم بعد تسجيلها وقد كان الموقف دافعا له لأن يفتح لنفسه آفاق التعبير من خلال وسائل الإعلام التي تهافتت عليه في العالم العربي، لكنه رفض أن يعبر عن رؤيته لمشاكل مصر خارج حدودها "اعتبارا لكبرياء وطن وولاء مواطن".
اليوم تدخل "دولة هيكل" العميقة عامها التسعين، ولا نجد شيئا نقدمه إليه وهو يخطو إلى عقده التاسع غير كلمات -لا نملك غيرها -تتسع للمعنى دون أن تفي بقدرتنا على التعبير.
اليوم الأحد ، يبدأ "الجورنالجي" عامه التسعين وخلفه تجربة إنسانية نادرة امتدت بين قصور الرئاسة وعروش الملوك، وتنقلت بين أفخم الفنادق وأضيق الخنادق، وتسامرت مع الفلاسفة والمفكرين، وتطوعت بإسداء النصيحة دون ثمن، وكانت سجلا مفتوحا لتاريخ مصر والعالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.
تعتبر سيرة هيكل المهنية دولة عميقة الأغوار، الظاهر فيها ينبئ عن قدر يسير من الغاطس، فهو صديق لزعماء وفلاسفة ومفكرين ومحاور بارع ومحلل لا يشق له غبار، يصفه هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا الأسبق بأنه "الرجل الذي يجب أن تجلس أمامه لتعرف العالم العربي".
شكل هيكل حالة استثنائية في تاريخ الصحافة العربية والعالمية، ففي كل لحظة كان يبدو فيها أنه سيذهب إلى عتمة الظلام، كانت الأضواء تتسلط عليه أكثر، وفي كل مرة كان يمكن أن يتوارى فيها خلف ستائر النسيان، كان يُستدعى - بقيمة التجربة- إلى ذاكرة الوطن ليحلل ويفسر وينصح، وفي كل مرة كان يظهر أنه سيبتعد، تجده قريبا من نبض الوطن معبرا عنه بما أوتي من بلاغة وبيان.
يستحق هيكل لقب أمير الصحافة العربية أو أستاذ الأجيال أو غيرها من ألقاب يبحث عنها البعض ويبذل لأجلها الغالي والنفيس وقد يدفع من أجل ترويجها، ما يجعلها تقر في الوجدان دون استحقاق في معظم الأحيان، لكن الرجل لا يفضل سوى لقب "الجورنالجي".
في سبتمبر 2003 وبمناسبة بلوغه الثمانين كتب الأستاذ محمد حسنين هيكل مقالين في الأهرام بعنوان "استئذان في الانصراف" تحدث فيهما عن لحظات سابقة راودته فيها فكرة الابتعاد أو الانصراف، ثم قرر أنه سيبتعد دون أن يغيب مفسرا "أنني لا أري بأسا في انتقال رجل من ومض الضوء إلي ظل الغروب (وليس عتمة الليل)- ومن متن الحياة العامة إلي هامشها (وليس الفراغ بعد الهامش).
حشد الأستاذ حججا لقراره، ومهد وعبَد طريقا طويلا في مقالتيه متشحا بتجارب وخبرات وأمثلة، ومقدما لحكمة الابتعاد اختيارا قبل أن يجبر عليه "كان تقديري أن أي حياة- عمرا وعملا- لها فترة صلاحية بدنية وعقلية وأنه من الصواب أن يقر كل إنسان بهذه الحقيقة ويعطيها بالحس- قبل النص- واجبها واحترامها، ثم إنه من اللائق أن يجيء مثل هذا الإقرار قبولا ورضا وليس إكراها وقسرا كما يستحسن أن يتوافق مع أوانه فلا ينتظر المعني به حتي تتطوع مصارحة مخلصة أو تداري مجاملة مشفقة لأن انتظار المصارحة مؤلم وغطاء المجاملة مهين".
الآن بعد 9 سنوات من استئذانه لم يسمح أحد للأستاذ بالانصراف وأجبر على الوجود بصورة أو بأخرى إذ كان تلاحق الحوادث وتلاطم أمواج الوطن دافعا لـ"الجورنالجي" الذي بدأ حياته المهنية في 8 فبراير 1942 أن يطل من آن لآخر، ملقيا بتحليل أو شارحا لموقف أو داعيا للإيمان بالوطن في وقت كان التكفير على أشده.
لم ينفرد هيكل بنفسه كما أراد بحثا عما أسماه "فرصة أوسع للتفكر والتأمل والنظر إلي الوراء في أناة وروية والنظر إلي الأمام بعقل وقلب مازال فيهما حس ونبض".
يمتلك هيكل أسلوبا في الكتابة يتسم بالفتنة في العموم وبالإغراء في التفاصيل ومع ذلك كان يفضل أن يتساءل الناس "لماذا لا يكتب هذا الرجل- أكثر؟.. بدلا من أن يكون سؤالهم.. لماذا يكتب هذا الرجل- أصلا؟
دائرة المعارف البريطانية تقول إن جريدة الأهرام كانت توصف خلال الفترة التي تولى فيها هيكل (1974:1957) بأنها "نيويورك تايمز" العالم العربي وأرجعت ذلك جزئيا لتحليلاته الأسبوعية التي كان بعضها ينشر على صفحة كاملة.
في عصر عبدالناصر (1954: 1970) كان هيكل صديقا ناصحا ومنظرا للنظام وعرابا يقدم لانجازاته ويدافع عن أخطائه لدرجة اتهامه بأنه أراد أن يكون الصحفي الأوحد وقد وصف مشاعره لحظة وفاة ناصر "درجة قربي من جمال عبد الناصر لا تسمح بحياد".
في عهد أنور السادات (1981:1970) اختلف هيكل مع الرجل الذي اتخذ قراري الحرب والصلح مع العدو وكان لكل رؤيته، في التعامل السياسي مع الانتصار العسكري الذي تحقق في حرب أكتوبر 1973، وبرغم انتقاد هيكل للسادات شارحا: "الرجل تعامل مع المجهول مراهنا علي تصوراته الخاصة في ظروف لاتحتملها الحقائق يومها ولا التقويم الموضوعي للمواقف" فإن هيكل الذي غادر الأهرام في 2 فبراير 1974 بدا بعد عمر طويل وعندما بلغ الثمانين متسامحا مع الرجل الذي اختلف معه "الغريب في الأمر أنني كنت مازلت قادرا علي فهم جزء من مشاعره"، وذلك بالرغم من أن عصر السادات انتهى باغتياله وكان هيكل وقتها معتقلا ضمن مئات السياسيين والنشطاء في ما عرف بـ"اعتقالات سبتمبر".
خلال مدة حكم حسني مبارك الطويلة (2011:1981) تعرض هيكل لمنع مقالاته في بداية حكم مبارك وقد بدا متفهما فقال لأسامة الباز مستشار رئيس الجمهورية "أنني آخر من يخطر له إحراج نظام لايزال يحاول تثبيت أوضاعه واستجماع خطوطه للقيام علي مسئولية الوطن في ظرف دام ومحتقن".
في النصف الثاني من حكم مبارك تم منع حلقة تليفزيونية لهيكل في فضائية دريم بعد تسجيلها وقد كان الموقف دافعا له لأن يفتح لنفسه آفاق التعبير من خلال وسائل الإعلام التي تهافتت عليه في العالم العربي، لكنه رفض أن يعبر عن رؤيته لمشاكل مصر خارج حدودها "اعتبارا لكبرياء وطن وولاء مواطن".
اليوم تدخل "دولة هيكل" العميقة عامها التسعين، ولا نجد شيئا نقدمه إليه وهو يخطو إلى عقده التاسع غير كلمات -لا نملك غيرها -تتسع للمعنى دون أن تفي بقدرتنا على التعبير.
هذاموضوع رائع للغايه و نتمنى لكم التفوق المستمر
ردحذفRäumung - Räumung